ملخص استخدام الطيران في ليبيا
خلال المرحلة الاستعمارية
التاريخ 12- 3 -2009
د.محمود أحمد الديك
جامعة الفاتح
لقد تبين
أنه من خلال سياسة التمهيد للغزو الإيطالي في المجال الاقتصادي، أفادت التقارير
التي تحصلت عليها الاستخبارات الايطالية، قبيل العمليات العسكرية، أن طبيعة الشعب
الليبي تتميز بالمتمسك بقوة بعروبته وإسلامه وبحريته التي لا تقبل المساومة، وهي
خبرة استفادت منها ايطاليا من خلال تجربة الفرنسيين المريرة مع المقاومة
الجزائرية. من هنا لجأت ايطاليا إلى سياسة المراوغة والمخادعة، فهي تريد إحراز
نصراً عسكرياً في اقل من الوقت وبحد أدنى من الخسائر، فجمعت بين الترهيب والترغيب،
وباتت تروج دعاياتها نحو تبنيها السلام والأمان،
وذلك من
خلال نبرات وعبارات ترجمت في مناشير، كمحاولة لإحداث خلخلة وشقاق بين من سيقبل ومن
سيرفض الاحتلال، مخاطبة الليبيين عموماً ومركزة على العواطف الدينية والأخلاقية،
وطلبت من الأهالي تحكيم العقل ومراعاة المصلحة في الحفاظ على أرواحهم وممتلكاتهم
وعدم التصدي للقوات الايطالية، زاعمة أنه لا جدوى من رفع السلاح، لأن ايطاليا قدمت
حاملة معها مشعل الحضارة الأوربية والرفاهية للشعب الليبي ومدعية تحقيق العدالة
واحترام الدين الإسلامي وستحقق ذلك حتى لو اضطرت لاستخدام القوة. لكن هذا المنشور
جاء في الوقت الضائع، إذ لم تنطل هذه الحيلة على الليبيين، وقد أدركوا أن أجواء
الحرب والعدوان لن يؤخرها لا منشور ولا كلام معسول. لذا أعدو أنفسهم لرد العدوان
بما يملكون أو الاستشهاد على أرضهم دفاعاً عن الأرض والعرض والدين، وسبقت عمليات
الإنزال العسكري البحري، محاولة توزيع المناشير لحث الأهالي على الاستسلام الكامل.
غير أن الأهالي ردوا على ذلك بانضمامهم تحت لواء القيادة التركية، وواجهت القوات
الإيطالية مقاومة ليبية شجاعة عثمانية غير متوقعة رغم قلة إمكانياتهم العسكرية،
مقابل ما كان يملكه الايطاليون من السلاح المتطور المتكون من : (البوارج الحربية
ذات المدافع الثقيلة ورجال البحرية وكتائب المشاة والدبابات والرشاشات وسلاح
الفرسان) يقودهم جنرالات وضباط عسكريين لهم خبرة وممارسة في الحروب في أوربا. لقد
استخدمت القوات الإيطالية الطائرات لأغراض عسكرية ودعائية في آن واحد، فحينما
واجهت القوات الإيطالية مقاومة عنيفة وتكبدت خسائر جسيمة، لم يتمكن الرصاص من لوي
أو كسر ذراع المقاومة، لذا حاولت العقلية العسكرية الإيطالية الالتفاف على
المجاهدين. وتحويل المعركة إلى حرب ثقافية سياسية، وقد اجتهدت الإدارة الاستعمارية
بمساعدة بعض المتطوعين الذين فضلوا التعاون مع الإيطاليين من أجل الحصول على بعض
المناصب والأموال وكان يظن هولاء كما كان يعتقد العدو أن المقاومة ستنتهي خلال
أسابيع وعندها سيكون المحظوظ هو من قدم خدمة لايطاليا لينال المكافأة المجزية، لكن
الواقع ما انتصر العدو ولا نال الطابور الخامس سوى الخذلان والخسران .ويقول شاهد
عيان في بداية القصف البري والبحري، أنه رأى وحش ينطلق في الفضاء، وهو جسم به محرك
طائرة المسماة (بليورت Pleriot) ، فقد كانت تلك الطائرة تحلق برشاقة عالية في
الجو. لكن ذلك الاختراع الفضائي العجيب الذي كان يعد ثورة في عالم الحروب -في ذلك
الحين-كانت بدايته تعيسة في ليبيا ، إن ذلك السلاح الذي صمم أساساً للعدوان
الخاطف، لم يكن فعالاً في بعض المواقع لأن القذائف التي تسقط من الطائرة تستقبلها
الأرض لتدفن في الرمال دون أن تنفجر أو تحدث أية أضرار فادحة بالمجاهدين
.فالمجاهدون الليبيون ليست لديهم منشآت عسكرية محددة، يمكن أن تلحق بها أضرار
جسيمة، ومع ذلك فالمجاهدون تحدوا الطائرات دون وجل، ولذلك لا تنزل بهم القنابل أية
خسارة ، وكانت النساء وألاطفال في القرى هم الضحايا، وهذه الحقيقة تثير حنق العرب
الذين لا يدرون-بطبيعة الحال- أنه بينما تمنع اتفاقية لاهاي استخدام رصاص (دم دم)
فإنها لا تمنع إسقاط قنابل من الطائرات تسبب شظاياها إصابات أكثر فظاعة، كما أن
السفن الحربية ومستودعات الذخيرة والقلاع وكل أنواع المنشآت الثابتة يمكن إصابتها
بسهولة. ولقد تصور الإيطاليون أن ظهور الطائرات لأول مرة في سماء ليبيا سيكون له
تأثير مرعب على العرب مثل تأثير فرسان (بيزاور) على قبائل الإنكا في أمريكا
الجنوبية وأن الشيوخ والدراويش سوف يخرون ساجدين وتستولي عليهم الدهشة والخوف لهذه
القوة الخارقة، وفي هذا الصدد يشير أحد المراقبين الأجانب بصورة لا تخلو من
المبالغة، إن الفوضى التي دبت بين الأهالي كانت شديدة، وصيحاتهم التي أثارتها هذه
المعجزة عالية في صفوفهم.وفي الواقع فإن عرب ليبيا -شأن مغاربة مراكش- لا يخافون
كثيراً من ظهور طائرة للعيان . وفي البداية لم يكن الهدف الأساسي الذي من أجله
استخدم الإيطاليون طائراتهم في أجواء طرابلس هو الاستكشاف فقط، وإنما إنزال الرعب
والرهبة في نفوس سكان المدينة، ولهذا كان نشاطها قد تركز التحليق فوق مدينة طرابلس
وضواحيها. ثم تفننت القوات الإيطالية في تطوير القصف الجوي واستخدام الغازات
السامة الممنوعة دوليا. وقد توالى استخدام الطيران في الاعتداء على الليبيين خلال
وبعد الحرب العالمية الثانية، وسقط العديد من الشهداء ضحايا التدريبات والمناورات
للقوات الجوية الأمريكية التي كانت جاثمة على الأراضي الليبية لأكثر من عقدين وتم
تحرير البلاد بإجلاء كافة القواعد الأجنبية سنة 1970 واستعادت ليبيا كامل حريتها
وسيادتها على البلاد.
المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية © 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق