مدينة إجدابيا
سعيد علي حامد
شعبة الخرائط التاريخية
تقع مدينة إجدابيا إلى الجنوب الغربي
من مدينة بنغازي بنحو 160 كم
. و ترتفع بنحو 28متراً عن مستوى سطح البحر ، ومعدل سقوط الأمطار السنوي بها نحو
130 ملم ، وتستمد المدينة حاجتها من مياه الشرب من آبار جوفية في نطاق الكثبان
الرملية . وقد اكتسبت المدينة أهميتها من موقعها الجغرافي المميز والذي يتحكم في
طرق تجارة القوافل سواء الممتد نحو الجنوب في اتجاه واحتي جالو وأوجله ثم الكفرة
ومنها إلى السودان أو بالطرق الساحلي باتجاه مدينة سرت ومنها إلي طرابلس والمغرب
العربي والذي يعتبر من أهم طرق القوافل إضافة إلى استخدامه من قبل قوافل الحجاج
القادمين من المغرب العربي واللذين يتوقفون عندها في مرحلة الذهاب مع أهلها ،
وكذلك بعد عودتهم من الأراضي المقدسة وأداءهم مناسك الحج .
نشأه أجدابية :-
أن نشأة مدينة أجدابيا غير محددة
بدقة ، ويبدو أنها قديمة النشأة فتعود إلى ما قبل فترة الاحتلال الـروماني لليبيا
في منتصف القرن الأول قبل الميلاد ويـرجح أن أسمها القديم هو ( كورنيكو لانوم (Corniculanum
) والوارد ذكرها في الخريطة الرومانية (1).
رابط بها في القرن الأول الميلادي
مقاتلون سوريون كانوا يتولون حراستها ، وتأمين الطريق الذي يربط بين قورينانية
وخليج سرت . وتوجد كتابات لاتينية منقوشة بالقرب من آبار المياه القديمة والمنقوشة
في الصخر والتي تشير إلى ذلك.
و يشير ياقوت الحموي(ت.626 هـ) في
كتابة معجم البلدان إلى تسمية مدينة أجدابيا حيث يذكر بأن أجدابيا – بالفتح ثم
السكون ودال مهملة وبعد الألف ياء موحدة وياء خفيفة وهاء – يجوز أن يكون الأسم
عربيا ويعني جمع جدب أو جمع قلة ، ثم نزلوه منزلة المفرد لكونه علماً فنسبوا إليه
ثم خففوا ياء النسبة لكثرة الاستعمال (2). ومن المرجح أن الاسم عربي أطلقه الفاتحون
العرب بعد فتحهم للمدينة ، كما فعلوا بالعديد من المدن التي افتتحوها .
الفتح العربي لأجدابية :-
أفتتحها القائد العربي عمرو بن العاص
في سنة 622 هـ/642م صلحاً على أن يدفع أهلها خمسة الآلف دينار جزية ، وقد أسلم
معظم أهلها ، منها انطلقت الجيوش العربية الفاتحة صوب طرابلس بقيادة عمرو بن العاص
، وفي اتجاه الجنوب نحو أوجلة و زويلة بقيادة عقبة بن نافع .
كانت المدينة تتبع مصر إدارياً في
القرن الثاني الهجري ، وبعد أن تمكن الفاطميون من تأسيس دولتهم في نهاية القرن
الثالث الهجري ، أخذوا يرنون بأبصارهم اتجاه الشرق لتحقيق طموحاتهم في السيطرة على
مصر ، وقبل هذا عملوا على السيطرة على المدن الواقعة في الطريق الموصل إليها ففي
سنة 301هـ " أخرج عبيد الله الشيعي حباسة بن يوسف الجيوش إلى المشرق ، فدخل
مدينة سرت بأمان، وهرب من كان فيها من جند بنى العباس (3) .
لقد أهتم الفاطميون بمدينة أجدابيا
لموقعها التجاري المميز ولوقعها على الطريق الذي يربط أفريقيا بمصر التي كانت
طموحات الخلفاء الفاطميين السيطرة عليها منذ فترة مبكرة نظراً لما اشتهرت به من
خصب ونماء وثروات هائلة ، ولقربها من الشام والحجاز ، وقد قام الخلفاء الفاطميون
بعدة محاولات للاستيلاء على مصر إلا أن جميعها بأت بالفشل .
وفي عهد الخليفة الفاطمي المعز لدين
الله تكررت المحاولة حيت بدأ " يعد العدة للرحيل إلى مصر سنة 355 هـ فأمر أن
تحفر الآبار على طريق مصر لتأمين الماء للجيش الذي كان يزمع إرساله لفتح مصر
بقيادة جوهر الصقلي كما أمر أن يبنى له في كل موضع مناسب على تلك الطريق قصر يصلح
لنزوله (4) .
وبعد فتح جوهر مصر سنة 357هـ بدأ
المعز في المسير إلى مصر سنة 361 هـ " فوصل سرت في الرابع من جمادي الأولى
ورحل عنها ونزل بقصره الذي بني له بأجدابيا (5). وفي أثناء وجوده بالمدينة أمر بأن
تصنع فيها صهاريج لتجميع مياه الأمطار (6).
ويبدو أن الذي قام بتنفيذ بناء
القصور هي تميم بن المعز إذ عثر على نقش حجري عليه كتابة بالخط الكوفي المزهر
" أمر به تميم " يعرض حاليا بمتحف طلميثة.
وقبل رحيل المعز " نصب على بلاد
أفريقيا يوسف بلكين زيري بن مناد الصنهاجي الحميري ، إلا أنه لم يجعل له حكما على
جزيرة صقلية ولا على مدينة طرابلس الغرب ولا على أجدابا وسرت (7). وكان القصد من
ذلك عدم إتاحة الفرصة لابن زيري من السيطرة على تجارة القوافل ، ويبدو أن المدينة
شهدت نوعا من الازدهار فقد أهتم الفاطميون فى بداية دولتهم بها فازدهرت تجارة
القوافل ومثلت أجدابيا أهم المدن فى منطقة سرت فأرتبطت مع السودان بطريق يمر
بأوجلة باتجاه بلاد السودان . وبعد وفاة المعز آلت الخلافة إلى ابنه العزيز نزار
(365هـ -386هـ ) أقر يوسف بلكين على ولاية أفريقيا وأضاف إليه ما كان أبوه أقد
أوكل عليه غير يوسف ، وهي طرابلس وسرت واجدابيا ، فاستعمل عليها يوسف عماله ، وعظم
أمره حينئذ (8) .
تأزمت العلاقات الزيرية الفاطمية
فيما بعد ، وانتهت بقطع المعز بن باديس الدعوة للفاطميين ، وخطب للقائم العباسي
سنة 440 هـ . وقام الفاطميون بإجازة عرب بني هلال وبني سليم النيل وأمروهم بالتوجه
نحو أفريقيا وملكوهم كل ما يفتحونه من مدنها ، وقصد الفاطميون من ذلك القضاء على
ملك بني زيري ، وقد ضمت تلك الهجرة أعداداً هائلة حتى أن المؤرخ ابن خلدون شبهها
بأنها " كالجراد المنتشر( 9 ) " وتضررت بعض المدن ومنها مدينة أجدابيا
والتي كادت طرق وتجارة القوافل أن تتوقف بها تماما .
فقدت أجدابيا الازدهار الذي شهدته في
الفترة الإسلامية المبكرة والفترة الفاطمية ، فقد كانت مكانا للتراجع والانطلاق في
بداية الفتح العربي ، ومركزاً تجارياً مهما في العهد الفاطمي وكانت هنالك أقاليم
تابعة لها وبها حصن وجامع كبير وأسواق دائمة للتجارة وكان لها ميناء لا يبعد كثيرا
عن مركز المدينة لاستقبال السفن الصغيرة (10).
عني الكثير من الرحالة والجغرافيين
العرب بوصف مدينة اجدابيا ففي القرن لثالث الهجري وصفها اليعقوبي في كتابه البلدان
بقوله " أجدابيا مدينة عليها حصن وفيها جامع وأسواق قائمة ومن برنيق إليها
مرحلتان ومن برقة إليها أربع مراحل ... ولها أقاليم وساحل على البحر المالح على
مقدار سنة أميال ترس به المراكب (11 ) .
وينفرد الرحالة ابن حوقل في كتابه
صورة الأرض (380هـ) بتزويدنا بمعلومات مهمة عن مدينة أجدابيا فيذكر أنها "
على صحصاح من حجر في مستواة ، بناؤها بالطين والآجر وبعضها بالحجارة ، ولها جامع
نظيف ، ويطيف بها ... خلق كثير ، ولها زرع بالبخس وليس بها ولا ببرقة ماء جار ،
وبها نخيل حسب كفايتهم وبقدر حاجتهم ، وواليها القائم بما عليها من وجوه الأموال
وصدقات (أهلها ) ... وخراج زروعهم وتعشير خضرهم وبساتينهم هو أمير ، وصاحب صلاتها
، وله من وراء ما يقبضه للسلطان لوازم على القوافل الصادرة والواردة من بلاد
السودان . وهي أيضاً قريبة من البحر المغربي فترد عليها المراكب بالمتاع والجهاز
وتصدر عنها بضروب من التجارة وأكثر ما يخرج منها الأكسية المقاربة وشقة الصوف
القريبة الآمر وشرب أهلها من ماء السماء (12).
ويفهم من نص ابن حوقل أنها مدينة
عامرة مكتظة بالسكان ، أهلها مكتفون ذاتيا من بساتينهم ونخيلهم وأن حاكمها يتولى
تحصيل الصدقات والخراج و العشور ويجبى الرسوم من القوافل التجارية ويرسلها إلى
الخليفة الفاطمي في مصر.
يمدنا أبو عبيد الله البكري بمعلومات
مهمة أيضا عن مدينة اجدابيا في القرن الخامس الهجري فيذكر أنها " مدينة كبيرة
في الصحراء ، أرضها صفا وآبارها منقورة في الصفا طبية الماء ، وبها عين ماء عذب ،
وبها بساتين لطاف ونخل يسير ، وليس بها من الأشجار إلا الأراك ، وبها جامع حسن
البناء بناه أبو القاسم بن عبيد الله له صومعة مثمنة بديعة العمل ، وحمامات وفنادق
كثيرة وأسواق حافلة مقصودة وأهلها ذوو يسار ... ولها مرسى على البحر يعرف بالماحور
.. وهى راخية الأسعار كثيرة التمر يأتيها من مدينة أوجله أصناف مختلفة من التمور
(13).
ويأتي الإدريسي في منتصف القرن
السادس الهجري ليصف مدينة أجدابيا بقوله " مدينة في صحصاح من حجر مستو كان
لها سور فيما سلف ، وأما الآن فلم يبق منها إلا قصران في الصحراء والبحر منها على
أربعة أميال ، وليس بها ولا حولها شئ من البنات وأهلها الغالب يهود ومسلمون تجار
... وليس بأجدابيا وبرقة ماء جار وإنما يعتمدون في مياههم المواجل و السواني التي
يزرعون عليها قليل من الحنطة ، والأكثر من الشعير ، وضروبا من القطانى والحبوب
الأخرى (14).
ويصف الرحالة العبدري ، اجدابيا في
رحلته التي قام بها سنة 688هـ بقوله " هي وحصن قديم على قدر دار عالية ، وذكر
بعض المؤرخين بأنه كان به ماء جار ونخل ، وليس الآن هناك إلا قصر مائل في خلاء من
الأرض لا ماء جار ولا شجرة واحدة (15).
لقد فقدت مدينة أجدابيا أهمتها
التجارية وهجرها الكثير من السكان نتيجة لانعدام الأمن والاستقرار ، وتعرضت
زرعاتها وبساتينها للتخريب نتيجة أستهدافها من بعض المغامرين مثل قراقوش ويحي بن
غانيه وكانت لإعمالهم آثار غير مباشرة أكثر خطورة مما قاما به من تخريب ، إن هذه
الصورة التي رسمها العبدري هي آخر ما قدمه لنا الجغرافيون والرحالة العرب حول
أجدابيا (16).
إن مدينة اجدابيا أصبحت في القرن
التاسع عشر مهجورة تماماً ثم عاد الناس للإقامة فيها سنة 1921 ( 17 ) وأصبحت من
أهم المدن في منطقة خليج سرت.
من أهم المعالم الأثرية التي لا تزال
باقية في المدينة القصر الفاطمي الذي بني قبل رحيل المعز لدين الله الفاطمي إلى
القاهرة ، ومسجد ينسب إلى الخليفة الفاطمي أبو القاسم بن عبيد الله (934-946 م ) وقد قامت مصلحة الآثار
بالتعاون مع جمعية الدراسات الليبية بلندن بحفريات بدأت سنة 1971 بمقبرة سيدي حسن
بأجدابيا أسفرت عن الكشف عن معظم أطلال المسجد القديم .
الهوامش
1. عبد الحميد عبد السيد . مدينة
أجدابية الأثرية . مقال نشر ضمن كتيب بعض المواقع الإسلامية في ليبيا ، منشورات
إدارة الآثار طرابلس ، 1976م .ص.29.
2. ياقوت الحموي . معجم البلدان ج1
(عن كتاب ليبيا في كتب الجغرافية والرحلات ص.65)
3. ابن عذارى المراكشي . البيان
المغرب في أخبار الأندلس والمغرب . (عن كتاب ليبيا في كتب التاريخ والسير .ص93).
4. عبد اللطيف البرغوثي . تاريخ
ليبيا الإسلامي حتى بداية العصر العثماني .منشورات الجامعة الليبية 1971،ص227.
5. ابن أبي دينار . المؤنس في تاريخ
أفريقية وتونس تحقيق محمد شمام .الناشر المكتبة العتيقة تونس .1967م.ص65.
6. المرجع الأسبق .ص228.
7. ابن الأثير . الكامل في التاريخ
دار الكتاب العربي ، بيروت المجلد 8 ، الطبعة الثانية 1967م.ص45.
8. المصدر السابق ص.ص.75-77.
9. ابن خلدون . كتاب العبر منشورات
دار الكتاب اللبناني ، بيروت مجلد 6 ، 1959م ص.ص.28 ،29.
10. جاك تيرى . تاريخ الصحراء
الليبية في العصور الوسطى . ترجمة جاد الله عزوز الطلحي ، الدار الجماهيرية للنشر
، مصراته ، 2004 م
ص 397 .
11. اليعقوبي .كتاب البلدان (عن كتاب
ليبيا في كتب الجغرافية والرحلات ، ص19).
12. ابن حوقل. كتاب صورة الأرض
منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت (د.ت) ص.ص ،69، 70.
13. البكري . المغرب في ذكر بلاد
أفريقيا والمغرب .مكتبة المثني ، بغداد (د.ت) ص ص 5،6.
14. الإدريسي . نزهة المشتاق في
اختراق الأفاق . (عن كتاب ليبيا في كتب الجغرافية والرحلات ص99).
15. العبدري . رحلة العبدري، عن كتاب
ليبيا في كتب الجغرافية والرحلات ، ص114).
16. جاك تيري . تاريخ الصحراء
الليبية في العصور الوسطى ص 399.
17. ر.ح . جود تشايلد . دراسات ليبية
. نقله إلى العربية عبد الحفيظ الميار وأحمد اليازوري .منشورات مركز جهاد الليبيين
للدراسات التاريخية 1999 ص252
المركز الوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية © 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق