الشاعر الشعبي هاشم بوالخطابية
يعد الشاعر هاشم بوالخطابية من أوائل وكبار الشعراء الشعبيين في بلادنا
وقبل ان نعرج على قراءه شعره الشعبي، نتطرق الى المدينة التي ولد بها الشاعر هاشم بوالخطابية،
وهي مدينة طبرق ، التي تقع في الشمال الشرقي من ليبيا ، والتي عرفت بين الكتاب الأوربيين
باسم " مارماريكا " أو ما يعرف حالياً بأسم البطنان ودفنه وأن كان مصطلح
البطنان قد طغى على الأخر ليشمل الأثنين معاً.
وتطل البطنان بموقعها على البحر المتوسط ، وتمتد على شكل مستطيل باتجاه
طولي من الشمال الى الجنوب ، وبعرض حوالي 300 كيلو متر ، وتعرف المنطقة الممتدة شرق
مدينة طبرق بدفنه ، والمنطقة الواقعة غربها البطنان.
وقد اشتهرت مدينة طبرق بيمينائها الطبيعي العميق ، المحمي من الرياح ،
والصالح لرسو جميع السفن ، والذي كان دائماً هدفاً للأطماع الاستعمارية خاصة وان المدينة
هي شبه جزيرة يحيط بها البحر من ثلاث جهات.
كما امتازت طبرق بالعديد من الأودية سواء التي تقع في الغرب أو الشرق
والتي كانت تغذي المدينة بمنتوجها مثل وادي هاشم ، ووداي العودة ، ووادي السهل ، وأم
الشاوش ، طبيرق وغيرها . وتضرب منطقة طبرق بجذورها في أعماق التاريخ . فقد أنجبت شيخ
الشهداء عمر المختار . وغيره من المجاهدين.
كما أنجبت الكثير من الشعراء الشعبيين الكبار . وقد استقرت بهذه المنطقة
قبائل المرابطين من أمثال :المنفة ، والقطعان ، والحبون ، والشواعر والسنينات ، والموالك
، والجراره ، وغيرهم ، وكذلك قبائل العبيدات الذين يرجع نسبهم الى عقار بن أبي الليل
الكعوبي شيخ قبائل بني سليم والذي تزوج من سعدي الزناتية ، واليها ينتسب السعادي جميعهم
بما فيهم العبيدات ، ويعد أفراد كل من قبائل العبيدات والمرابطين هم السكان الأصليين
لمنطقة البطنان ، ومن أشهر قبائل العبيدات الذين سكنوا طبرق قبيلة مريم ، هذا بالاضافة
الى عائلات من قبائل غيث ، والشاهين وغيرهم..
وتفرعت قبيلة مريم الى عدة فروع ، والتي من بينها عائلة الفريخ بيت عبدالكريم
، التي يتنسب اليها شاعرنا هاشم بوالخطابية.
وفي أواخر العهد العثماني ، وبالتحديد في سنة 1885ف شهدت مدينة طبرق حركة
عمرانية وسكانية واسعة وخاصة بعد أن أسست بها الحكومة العثمانية دائرة للبرق ، والجمارك
، ومحكمة شرعية ، ومدرسة لتعليم أبناء المدينة مبادئ القراءة والكتابة ، كما تم انشاء
المسجد العتيق بها، وكذلك الزاوية العروسية ، والزاوية العيساوية ، ومع مضي السنوات
أصبحت طبرق بها العديد من المساكن ، والحوانيت ، والأبنية الادارية ، مما جعلها محط
أنظار بعض الأسر القريتلية والعديد من عائلات مصراته وطرابلس ودرنة وبنغازي الذين نزحوا
الى المدينة واستقروا بها، مما ادى الى زيادة السكان ، وتنشيط الحركة التجارية بها
، كما يجب أن لا ننسى أن أن غالبية سكان البطنان ودفنة كانوا من البدو الرحل الذين
ينطلقون خلف أغنامهم وابلهم بحثاً عن مواطن الكلأ و موارد المياه في سقايف البطنان
والدفنة ، كما أنهم كانوا يعتمدون على مياه الأمطار الموسمية.
وينتمي شاعرنا الى عائلة الفريخ (بيت عبدالكريم) أحدى عائلات قبيلة مريم،
ووالده هو عبدالكريم عبدالمولى بوالخطابية الذي ولد سنة 1840ف.
وقد عاصر أواخر العهد العثماني ، وكذلك بداية الاحتلال الايطالي للبلاد
، وتزوج بأكثر من امرأة ، أما والدته فهي / مريم خطاب من قبيلة المنفة عائلة علوش ،
وقد توفي عبدالكريم بوالخطابية سنة 1927ف وقد ترك العديد من الأبناء ومن ذريته ((هاشم
– سليمان – خليل – عبدالسلام – عبدالله))
شاعرنا أذن هو عبدالكريم عبدالمولى بوالخطابية ، من قبيلة عائلة الفريخ
بيت عبدالكريم.
وقد ولد شاعرنا سنة 1882ف ، وترعرع وعاش بمنطقة البطنان ، الطرف الشرقي
من الوطن ليبيا وبالتحديد مدينة طبرق ، وادي الوعير الذي يقع الى الشمال الشرقي من
المقبرة القديمة والذي يعتبر مسقط رأسه ، ومهد طفولته ذلك الوادي الذي سمي بهذا الاسم
لصخوره الرسوبية الوعرة منذ العصر المطير والذي كان غنياً بخضرواته ، وقد ورثه الشاعر
وأخوته عن والده وكان يمتهن الزراعة فيها ، ويهزج بأشعاره وهو يسقي الزرع والعصافير
تغرد من حوله ، وصدى أغانيه كانت ترددها سفوح الوداي الغنية بشجيرات الشيح والزعتر
. وقد تفتحت قريحة الشاعر بوالخطابية على بساطة حياة البادية ورغدها ، وخاصة في السنوات
الأولى من صباه وشبابه ، وتأثر بالبيئة التي ولد فيها ، كما كان سوق مدينة طبرق هو
منتداه الشعري يتحلق في مجلسه كل من يعرفه ومن لا يعرفه ، يستمعون الى قصائده ، فقد
كان حاضر البديهة في مناظرة الشعراء الشعبيين وارتجال الشعر ، ويحب الدعابة والتندر
بطبائع الناس وسلوكهم في الحياة عند ما يحضر ممتطيا حماره لبيع الخضروات في سوق المدينة
يسرع الناس لملاقاته والاستمتاع الى حكاياته الطريفة ، وأشعاره ، وان كانت معظم أشعاره
في المزح والدعابة قد تلاشت وضاعت في صدور الحفاظ والرواة ولم توثق.
وقد أحب شاعرنا في شبابه ، فتاة بدوية جميلة ، تسمى ((الشاكة )) سرعان
ما اختطفها الموت وهي في ربيع العمر فذهب في جنازتها مع الأهالي ، حتى احس بالحزن العميق
لفراقها وتخلف عن العودة مع المشيعين وطال مكوثه عن الرمس حتى داهمه النوم ، ولما أفاق
من نومه وجد نفسه يرثيها بأبيات من الشعر الشعبي ، ومن يومها أصبح هاشم بوالخطابية
شاعراً . وقد انصب شعره الشعبي في بداية حياته على الغزل وحضور مناسبات الأعراس في
النجوع وفي سقايف البادية ، ومن شعره الغزلي هذه الابيات قوله:
يدوي دوي البحر عقب ليله كاثر دقيله الخاطر على خزرة اللي اوميله
وبعد ذلك توالت قصائده العاطفية الشعبية مثل العينن همدت ، و واجد اشقينا
به، حواء ، عيون شوق ..وغيرها.
كما كان يميل الى حياة الانطلاق والتحرر ، وزيارة العديد من الأصدقاء
في مختلف المدن الليبية ، ومن أوصاف شاعرنا هاشم بوالخطابية ، أنه كان متوسط القامة
، ممتلئ الجسم ، نظيف البشرة ، يمتاز بالروح المرحة ويميل الى الدعابة والفكاهة في
حياته الاجتماعية.
وقد عاصر شاعرنا في حياته أواخر العهد العثماني ، والذي عرف بخلافاته
الداخلية بين الولاة وفرض الضرائب الباهظة على الاهالي والسكان ، وهذا بالاضافة الى
حالة الضعف والتدهور ، مما سمح للغزو الايطالي بأن يحتل البلاد سنة 1911ف ، وقد كانت
مدينة طبرق من أهم المواقع الحربية على الساحل الليبي وميناؤها كان له شأن في جميع
الحروب الحديثة التي جرت على الأرض الليبية فكان من الطبيعي أن تكون طبرق بسبب هذه
المزايا الحربية الهائلة هدفاً رئيسياً للحملة الايطالية ، بقصد السيطرة عليها، فلذلك
كانت طبرق أول بقعة من التراب الليبي تطأها أقدام الاحتلال الايطالي.
وكانت الأوامر قد صدرت لاحتلالها قبل مدينة طرابلس وبنغازي ، وقامت السفن
الايطالية في 14 أكتوبر سنة 1911ف بقصفها تمهيداً لاحتلالها ، ودعوة الحامية التركية
الى الاستسلام ونزلت بها وحدات من البحرية الايطالية بعد أن قامت السفن بتدمير الحصن
التركي العتيق ، ثم نزلت في 19 التمور 1911ف بقية قوات الحملة المخصصة لاحتلال طبرق
والسيطرة عليها ، وما ان وقع الاحتلال حتى تنادى الأهالي للجهاد الأكبر ، وبدأ المجاهدون
في تنظيم صفوفهم ، ولم يمض أسبوع على نزول المحتلين بالمدينة ، حتى بدأت مقاومة السكان
لهم مقاومة عنيفة لا تقبل الخضوع والاستسلام.
كما اشترك شاعرنا في حركة الجهاد ، وخاصة معركة الناظورة التي وقعت في
22 ديسمبر الكانون 1912ف ، وكانت بقيادة المجاهد المبري ياسين ، ومعه العديد من المجاهدين
من مختلف القبائل في المنطقة ، حيث هاجموا القوات الايطالية التي كانت تحتل قصر الناظورة
وهو مكان يشرف على مدينة طبرق من ناحية الجنوب . وقد استشهد في هذه المعركة المجاهد
المبري ياسين ، كما أصيب فيها العديد من المجاهدين من بينهم الشاعر المجاهد هاشم بوالخطابية
، حيث أصيب بثلاث اصابات ظل يفتخر بها طوال حياته(1)
ولما يئس الاستعمار الايطالي من القضاء على حركة الجهاد ، واخضاع المقاومة
المتأججة بقيادة شيخ المجاهدين عمر المختار ، وفشلت جميع التدابير ، ولجأ السفاح الايطالي
غرسياني الى زرع الأسلاك الشائكة على الحدود المصطنعة مع مصر من مساعد شمالاً حتى منطقة
الجغبوب.
ونقل جميع الأهالي من البطنان والجبل الأخضر إلى المعتقلات مع حيواناتهم
وابلهم الى العقيلة والبريقة والمقرون وغيرها..
وقد كابد الأهالي في هذه المعتقلات الجوع والعطش ، واشد أنواع الابادة
الجماعية للشعب الليبي.
كما لا ننسى أن شاعرنا هاشم بوالخطابية قد تأثر نتيجة الاحتلال الايطالي
كغيره من الشعراء في بلادنا ، وحصار المدينة بذلك السور الضخم الكبير الذي كانت بوابته
الغربية تسمى باب درنة وبوابته الشرقية باب السلوم ن ولا يسمح للآهالي بدخول مدينتهم
الا بتصريح ايطالي يسمى (( برميسو ))
تذكر شاعرنا كيف حل به عيد الاضحى وأهله في المعتقلات ، ومدينة طبرق خالية
من سكانها ومراح ماشيته الذي كان صاخباً ، لا يسمع فيه ثغاء, قصرت يداه حتى عن شاة
الأضحية فتعثرت خطواته وأقدام الغرباء تدنس شوارع المدينة ، ولا أذان يرتفع بمئذنة
مسجد طبرق العتيق ، أحس بالحزن العميق وأخذ يردد:
العين عيدت في بلادها وغريبه يا لطيف يا ساتر عليك مصيبه
كـم عـيد عـيدناه مـوبنكــاده ايــام الهنا والبيت واجـد زاده
وهناك من يزيدك في الشرف ميعاده كان غيرهن لنظار ما يلتامن
ابقي دمعهن فوق الوطا بداده قوي مازقه فيه المراكب عامن
وكذلك عندما اطل شاعرنا ذات يوم على وادي العودة / ولم يجد احداً من أصدقائه
وأقاربه ، أخذت العين تذرف بالدموع في حزن وأسى وردد :
اليوم جيت لطبيرق ووادي العودة اصحاب ما القيت ودارهم ميجوده
وعندما وصل مطلع هذه القصيدة سراً الى معتقل البريقة ، رد عليه الشاعر
سالم البنكة من المعتقل ، وهو يشعر بالحنين المتدفق لمسقط رأسه ، ومهد طفولته وهو يدعو
الله سبحانه تعالى أن يخلّص الوطن من كابوس الاحتلال الجاثم على صدره والعودة الى مضارب
الاهل ونجوعهم.
وبعث اليه الشاعر سالم البنكة(2) برده قائلاً في قصيدة:
اليوم جيث لطبيرق وريت القبه وريت شي نظر من امقبل جبا
هنى بال من فوق المدور صبا وراعي سقايف دايرات اجبوده
في نجع ما عمره نهار تغبا انجاهم الضايف مرحبا بالجوده
واخيار الفتى يصبر لحكمة ربه وراه كل شي عند الكريم احدوده
كان جيت لطبيرق اوهام ايغدن انهفن ادموعي ع الوطاه ابدن
طالب افضول الله ياك ايعدَن أيام النـكاد وربطنا في العـوده
وان شاء الله من ربي امور اجدن ابدل الريح العالية بخموده
ان شاء الله ناتوهن ابجاه ربنا في اسرع سريع انجوهن
نفوت مقعد الريقات ونقربوهن ونبقوا نزالى كل حد في هوده
ينقّض على الجرح كي نرعوهن الدهر خاني فاقد تريس اسدوده
وايام السعاده الهالبات ايردن امغير يصبروا يفزع الله بجوده
لكن الشاعر هاشم بوالخطابية لم يصمت على تلك الجرائم الوحشية ، التي قامت
بها ايطاليا الغازية ضد الأهالي ، فقد أرَخ لكل تلك الاحداث الجسام في قصائده الوطنية
والتي من بينها قصيدة البطنان حيث قال فيها:
من وادي اسماه جرفان لرأس التراب الوصايف
الدايم الله يــا البطنان خاليات فيك السقايف
عليك انعكس مال الزمان وربيعك اللي كان فيك صايف
ثم اخذ في وصف حالة ترحيل الأهالي من البطنان الى معتقلات البريقة والعقيلة
، تلك المأساة المروعة ، حيث يذكر تلك القبائل التي زج بها في معتقلات الابادة الجماعية:
ومنيف وشواعر وقطعان يا ما جرى لهم م الحسايف
سيقوا كما سوق حيوان بسوم وكس وان الخرايف
ولشاعرنا العديد من القصائد الوطنية التي يصور لنا فيها كفاح الآباء والأجداد
، ضد الغزو الايطالي ، مثل قصيدة البطنان ونهار الغنة وغيرها.
وان كان لم يذكر لنا أسماء معارك الجهاد أو مواقعها أو السلاح المستخدم
فيها الا انه ذكرها بشمولية وبصفة عامة دونما تحديد.
ومع دخول الحرب العالمية الثانية ، أصبحت طبرق من أكثر المدن الليبية
تعرضاً للقصف والدمارمن قبل القوات المتصارعة عليها سواء من الحلفاء أو المحور ، حيث
لجأ الأهالي الى ترك المدينة والاستقرار في المرصص والكهوف و الوديان المجاورة لها.
ويتذكر شاعرنا في قصيدته كيف تم تفريغ المدينة من عائلاتها ،الى منطقةالمرصص
نتيجة تلك الحرب المشؤومة حيث قال:
واليوم يانك في الوطا مرمية وينهم أهاليك ووين التجار
ووينهن حساباتك الدرناويه أرباب البضايع سلمن في الدار
ووينهم تواجيرك اللي روسيه جيابة الفخر وقتا يسير حقار
ووينه السوداني وعيت رقية وكمين حوش قرعتهم اللي خطار
وتمضي السنوات وتدور عجلة الزمان ، تتقدم السن بشاعرنا فيتقوس ظهره ويشتعل
رأسه شيباً ويعتل جسمه ويضعف بصره ، ويتجه في قصائده الأخيرة ،إلى ذكر الأطلال والديار
وتذكر سنوات الصبا والشباب ، وظهر كل ذلك واضحاً في قصائده الحوارية كالبئر والسن والدار
وغيرها.
ويستقر به المقام في أواخر عمره في ذالك الوادي المسمي باسمه وادي هاشم
ويظل يتردد عليه الشعراء ، وكذلك الاصدقاء من غير الشعراء من مختلف الأجيال في مدينة
طبرق ، والذين كانوا يستمعون الى قصائده الشعبية الرائعة و إلى حكاياته ونوادره الطريفة
المرحة ، فقد كان شاعرنا يحتفظ بذاكرة قوية حيث كان يعرف أدق التفاصيل عن المناسبات
التي قال فيها قصائده وتاريخها أيضاً ، وكان يردد على مسامع معيديه وزواره وهو على
فراش المرض، وعندما كان قاب قوسين أو أدنى من دنو الأجل قال يا "أحبابي لقد هدني
الكبر والحب والشعر"