05‏/04‏/2015

قراءة في ديوان الشاعر هاشم بوالخطابية

شــاعـــر الاطــلال الليـبــي


قراءة في ديوان الشاعر هاشم بوالخطابية
-  دراسة و تحقيق -  حسين نصيب المالكي


الاهتمام بالشعر الشعبي سنعتبره مهمة صعبة لا يضطلع بها إلا من آمن بجدوى الأدب والثقافة فهذا النوع من الشعر معظمه غير موثق ويحتاج إلى جهد كبير وسفريات متكررة وبحث عن رواة له غالبا ما يكونون كباراً في السن أو مرضى أو معتزلين لقول الشعر .. وعلى الباحث أن يبذل جهده في إقناعهم وفي تسجيل كل ما يلفظونه من أبيات وفي الربط بينها وتصحيحها وإعادة وزنها وعرضها على الباحثين المتمكنين للتأكد من مصداقيتها وأنها فعلا للشاعر المبحوث فيه  .. ولعل الجهود التي قام بها الدكتور الراحل على الساحلي والأديب سالم الكبتي كانت مثمرة جدا وتكللت بإصدار ديوان الشعر الشعبي بجزئيه عن جامعة قاريونس ليكون مرجعا مهما يهرع إليه البحاث والمهتمون كلما احتاجوا إلى شيء من هذا الشعر ..
وبالطبع نحب أن نشير إلى الجهود المهمة جدا  للدكتور يونس عمر فنوش والأستاذ السنوسي محمد والأستاذ أحمد النويري والأستاذ محمد سعيد القشاط والأستاذ الراحل الهمالي شعيب والدكتور برهانة والأستاذ القاص أحمد يوسف عقيلة وغيرهم من المخلصين لفن الشعر الشعبي والسابرين لأسراره وحلاوته والتي لا يفهمها أو يتذوقها أو يحس بها إلا ابن هذا الوطن الذي عاش في لغته وتربى بين ربوعه لأن الشعر الشعبي لا يمكن فهمه عن طريق المدارس ولا يمكن أن تتمكن اللغة العربية الفصحى من شرحه في كلمات مختزلة فلفهمه لابد أن يكون الدارس قد عاش ومارس تقاليد وعادات هذا الشعب الليبي الكريم فالشعر الشعبي هو ثمرة حياة ونقطة عرق أفرزتها المعاناة وما تقوله اللغة العربية في صفحة أو في صفحتين يقوله الشعر الشعبي في كلمة واحدة ولن أكون مجحفا لو قلت إن الشعر الليبي الذي تم إبداعه بالدارجة أقوى وأهم و أبدع من كل القصائد التي صاغها الشعراء الليبيون باللغة العربية الفصحى متأثرين - بالطبع - بمدارس الشعر العربي والعالمي القديمة والحديثة .. حتى أن القصيدة الشعبية هي هويتي وهي نشيدي الوطني الذي أجله وأكن له فائق الاحترام وذلك لما يحتوي هذا الشعر الشعبي من اختزال وتكثيف ومجاز ودفء وتعبير وجمع لكل آمال و أحاسيس هذا الشعب .. فالشعر الشعبي دائما يولد هكذا من جذر الإنسان ومن ترابه ودمه ومشاعره وعفويته وممارسته اليومية للحياة ولمحاولته حل لغزها مستعينا بكل ما مدته له من تجارب ومعارف مختلفة واللهجة الدارجة الليبية خاصة التي يقول بها الشعراء الفحول قصائدهم لو أعدنا كلماتها إلى القاموس لوجدناها قريبة جدا للعربية بل أن الإختلاف طفيف جدا .
منذ قليل فقط أتممت قراءة ديوان هاشم بوالخطابية (دراسة وتحقيق) للكاتب حسين نصيب المالكى وعبره تجولت في مرحلة ثرية من مراحل هذه الحياة التي عاشها الشاعر في منطقة البطنان وبالشعر استطاع أن ينفعل ويعبر عنها سياسيا واجتماعيا وعاطفيا فمن خلال القصائد تستطيع أن تلم بنوع الحياة المعاشة ذلك الزمان وظروفها المختلفة وتمس بيدك ما خلفته الحرب العالمية من ألم استمرت تداعياته حتى الآن ومن وسط ذاك الدمار تحدى الشاعر الموت والخطر والقنابل بالشعر  والحب لكن سيظل تميز الشاعر الخطابية في محاورته للأطلال ومخاطبته للمكان الذي كان مأهولا بالعشاق .. هو شاعر يشتغل على الماضي ويجذبه إلى اللحظة الراهنة ليمنحه رعشة الحياة وليجعله ينطق كما في الحوارية المتخيلة بينه وبين البئر حيث سأل الشاعر البئر عن حبيبته هل قدمت وملأت جرتها هذا اليوم أو الزمن أم لا .. وقام بأنسنة البئر وحلفه أي استحلفه بالنبي الكريم ليخبره صدقا جاءت أم لا .. ولعل مسه لأحاسيس البئر عندما قال له في القصيدة وبما معناه هل جاءت حبيبتي إليك ومست بسوالفها حوافك .. فمس بئر الماء بسوالف الجميلات به شاعرية رهيبة يقول : هاشم بو الخطابية في قصيدته :
سوال النبي يا بير ما ورداتك .... ودلت سوالفها على جالاتك
ويضيف الشاعر ليصف كل بنات النجع الواردات للبئر بوصف به جمال أصيل مستذكرا عندما كان صغيرا يرافقهن إلى البئر ويرى عبثهن بالماء ومرحهن وغسلهن لأيديهن ورؤوسهن بماء البئر العذب المنعش :
سوال النبي يا بير ما وردنّك ..... بناويت كي لون الغزلة جنّك
ونا صغير ومعاهن وهن يسقنك ... ومجن ايديهن في شراب قناتك
يرقّن غراضي وين ما يرعنك ... ويخطر عليهن صوب في جياتك
وتتواصل قصائد الشاعر المتغنية بالأطلال وبالبكاء على اللبن المسكوب بشكل ليس به يأس أو استسلام لكن بطريقة تجعل الماضي حيا متحولا إلى عبرة وإلى ذكريات مبهجة تساهم في درء أخطار السأم والشيخوخة والملل حيث يتخذ الشاعر الماضي كخلفية ظليلة يتكيء عليها من رمضاء الحاضر ليستريح وليحس بأن لحياته معنى .
والشاعر بوالخطابية يمس الماضي حتى في نفسه وفي كيانه فدائما يبكي على رحيل العمر والصحة ويعاتب الزمن عتابا مرا وكل طرف من جسده عزيز عليه فإن توقف أو سقط أبنه وبكى عليه وذكر جمائله عليه ولعل قصيدته السن معبرة جدا .. حيث استحضر الشاعر شباب هذه السن عندما كان شاباً عاشقا يواعد الحبيبات ويقبلهن ويمارس حياته المرحة في بر واسع تحت سماء الله .. يواسي سنه التي أسقطها الزمن وركضه الحثيث فيقول :
يا سن يا ما ريتي .. وما من شفاه امنفلة عضيتي .. واليوم طايحة
وامنفلة تعني الشفاه السفلى بها وشمة تهبط حتى أسفل الذقن .. فالشاعر هنا يجمع بين الحسي و الملموس حيث يبرز القبلة العنيفة التي يصاحبها عض ويتغنى في الآن نفسه بالوفاء والحب وأخذ العبر عبر كلمة يا ماريتي ولا ينسى أن يختم بيته الشعري بكلمة الفناء والنهاية والهبوط والطريق المسدود الذي سيصله الإنسان عبر كلمة واليوم طايحة .. أي مقتلعة من مكانك بسبب مرض السكر أو التسوس أو الهرم .
الشاعر هاشم بوالخطابية ومعظم الشعراء الشعبيين ما يميزهم هو قوة السبك والعفوية والتصاقهم بالبيئة المحلية التي يعيشون فيها وابتعادهم عن الرمز والغموض وإن حدث فيتم بطريقة إبداعية مدهشة ولا يتم استخدام ذلك النوع من الشعر إلا في حالات الخطر او الحرب من أجل التحذير أو غيره وبساطة الشعر ومليته وقربه من الأذن واللسان والقلب يجعل شعر بوالخطابية يعيش ولا يندثر ولا يموت في قلب راو إلا بعد أن يجد له مكانا في قلب جديد وما زلت أذكر اغنيته سوال النبي يا بير ما ورداتك  عندما تغنى بها المطرب سيف النصر في أحد الأعراس الشعبية بحي المحيشي ببنغازي وكيف تفاعل معها كل الحضور وشارك الجميع في ترديدها ككرس صاخب حيث غطت أصواتهم الجهيرة على أصوات الآلات الموسيقية المصاحبة لسيف النصر ..
وازدادت صرخات الاستحسان عندما غنى شطر بيت به موعد الحبيب مع الحبيبة على حاشية البئر أعتقد أنه هذا المقطع :
سوال النبي يا بير تنهى فيا ... ما ريتهن بيديك اشغال الغيّة
نا وبو خجل فوق الكتوف وسيّة ... ميعادنا ديما على خرزاتك
واليوم وين هو صاحب عزيز عليا .. ودونه أكوام الياس كي نزواتك
وتتواصل الحفلة روعة وتبلغ ذروتها عندما يشكو الشاعر والمطرب في البئر عند القاضي لأنه لم يخبره هل اتت حبيبته إليه ام لا :
سوال النبي يا بير ماني راضي .. نريد نطلبك بحقوق عند القاضي
ما كنت تترع شرابك فاضي  ... ويردوا عليك أجواد في نزهاتك
عاشق كبير وراقات غراضي .. ولا يعتني ليام كي لوعاتك
الرحيل في شعر هاشم بوالخطابية رحيل طويل وممتع وقد يجعل القارئ متأثرا عبر استدعاء تاريخه العاطفي الشخصي الملوء بالإحباطات والانكسارات فشاعر الأطلال الليبي أستطيع أن أقول إنه هاشم بوالخطابية ولعل انطلاقته من بيت الملك الضليل امروء القيس في معلقته الشهيرة :  قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل .... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والحب ما هو إلا ذكرى والحياة نفسها ذكرى والتاريخ نفسه ذكرى وكلمة ذكرى هي فعل ماضٍ جميل به حنان ودفء وألم فلا أحد سيتخلى في يوم من الأيام عن ذكرياته أو يتنكر لها لأن الذكرى وشم أبدي في أعماق الإنسان .
لقد عاش بوالخطابية شاعرا بواسطة القصائد وشاعرا في الحياة حيث قرض الشعر الوطني والعاطفي والسياسي والاجتماعي وواسى المرضى بالقصائد كمواساته للمجاهد الشهير ياسين المبري عندما سافر للعلاج بقصيدته :
سلامي على شيخا اقلال امثاله .... يفكر وديانه على لمان
اعداد المنايح والوتى والعالة .. واعداد ميتا قدم على دفان
اعداد الحطب والحيط والهيالة ... واعداد صيد هامل في عفا وديان
اعداد من تخوج نين واجد ماله .. واعدا الفقير اللى مشى حفيان
وتستمر القصيدة في تعديد السلام على المريض بحيث ان يكون سلاما كثيرا لا يحصى وفي نهاية القصيدة يتمنى للمريض الشيخ العودة سليما إلى وطنه وأسرته مستحضرا وطالبا شفاعة كل الأنبياء والأولياء والناس الطيبيين والأطفال وهي قصيدة حب من القلب وتمنيات صادقة بالشفاء لمجاهد وشيخ جليل وحال وصوله ستزغرد الفتيات ويفرح الجميع .
الجدير بالذكر أن الشاعر هاشم بوالخطابية لم يدخل المعتقلات التي أقامتها إيطاليا للقبائل الليبية إلا أن هذا لم يبعده عن معاناة الليبيين وشاركهم بالقصائد وتألم لألمهم وتبادل معهم الأبيات الشعرية وفرح لخروجهم من المعتقلات وعودتهم للحياة ولمقاومة المستعمر مجددا .
الشاعر بوالخطابية هو شاعر متصوف للشعر حيث لزم في أواخر حياته وادياً اسمه وادي هاشم يزوره فيه الأصدقاء والأقارب وعشاق ورواة الشعر ولقد عاش حياته كما أحب فتزوج بأربع وعاش كريما فعلم أولاده الذين صاروا أساتذة وشخصيات لها احترام وتقدير في المجتمع  وزوج بناته وكتب قصيدة الحياة الشاملة كما يريدها وكما ينبغي للشعراء أن يكتبوها .
و لايسعني هنا إلا أن أشكر الصديق الكاتب والباحث حسين نصيب المالكي الذي كتب القصة القصيرة أيضا وله اسهامات نقدية وصحفية لأكثر من ثلاثين سنة ولعل تميزه المهم كان في الدراسات التاريخية حول معارك المجاهدين والشعراء الشعبيين خاصة في منطقة البطنان التي عاش فيها ويعرفها حجرا حجرا .. وكتابه هذا ديوان هاشم بوالخطابية ديوان مهم يضيف إلى مدونة الشعر الشعبي الليبي الذي ضاع منه الكثير ونأمل أن يتصدى بالبحث والدراسة لشعراء شعبيين آخرين حفظا لأرث هذا الوطن من الضياع وهذه المشاريع هي مشاريع جادة تلملم ذاكرة هذا الوطن وتحفظ هويته وينبغي على من يهمه الأمر من جهات مسؤولة الوقوف مع هؤلاء الباحثين ودعمهم ماديا ومعنويا لأنهم يقومون بعمل وطني مقدس قد لا نشعر به الآن لكن الأجيال القادمة ستديننا إن لم نقدم لها زادا يملؤها بالفخر والاعتزاز .
الشعر الشعبي شعر له معايير تتطور بثبات وهو عصي على المتطفلين ولا يوجد فيه ادونيس أو رامبو ولا يمكن نثره أو تنثيره أو هدرزته فمن هو ليس شاعرا حقيقيا لا يستطيع أن يلجه أو حتى يقرأه بصورة صحيحة ويتذوقه وهذا الشعر سيظل يؤثر ولا يتأثر وهو مرتبط ارتباطا قويا بالأذن واللسان وبمنولوج داخلي وطني لا يشتعل إلا في قلوب معينة غارقة في عشق المكان الذي وعت فيه والتهمت فيه بواكير رحيق اللغة .
الديوان صدر في مصر عن دار مركز نهر النيل للنشر وعلى نفقة المؤلف الخاصة يقول الناشر في كلمته عن الديوان:
" فى محاولة جادة للتوثيق لتاريخ النضال الليبى من خلال الأدب، أصدر الأديب الليبى حسين نصيب المالكى كتابا قيما جمع فيه وحقق قصائد الشاعر الليبى هاشم بوالخطابية، مستعينا بأبنائه الثلاثة، وبما تواتر عن الشاعر وما تناقله الحفظة من شعره. وقد ضم الكتاب عدة قصائد للشاعر وتحقيقا لها مع ذكر مناسبة نظمها وتاريخ النظم.
كما حوى الكتاب عددا من القصائد الغزلية التى قالها الشاعر فى مناسبات عدة على مدى حياته.
من القصائد التى تناولها الكتاب: طبرق، البطنان، نهار الغنة، العين همدت، الدار، واجد اشقينا به، سلامى على شيخ وغيرها.
الكاتب حسين نصيب المالكى صدر له من قبل عدة كتب نذكر منها: مقبولة (مجموعة قصصية)، شاعر معتقل العقيلة (دراسة)، وتجسد الحلم (مجموعة قصصية)، صور من الجهاد الليبى فى طبرق (دراسة)، قراءات فى القصة القصيرة (دراسة)،الرجل والنورس (مجموعة قصصية).

ليست هناك تعليقات: