السيد علي باشا العابدية
رجـال حـول المـلك
بقلم: الصـّادِق شكري
رضيـنا بحتْفِ الـنّفوسِ رضيـنا *** ولم نرض أن يُعرفَ الضيمُ فينا
ولم نـرض بالعيـشِ إلاّ عـزيـزاً *** ولا نـتـق الـشـر بــل يـتـقـيـنـا
الشاعر: أحـمَد الشّـارف
السيد علي باشا العابدية
في هذه المحطّة، نتوقف عند أحد الرجال الذين شاركوا الملك إدرْيس السُّنوُسي رحلة جهاده وبنائه لدولة ليبَيا الحديثة.. رجل وُصِف بـ" الجندي الماهر، وموضع ثقة عند السّيِّد إدرْيس"، وهو السّيِّد علي باشا العابدية.. نتوقف لنتعرف على عطاءات هذا الرجل ومساهماته العظيمة، في لمحـة عن قربٍ..
ثانياً: علي باشا العابدية.. سيرة وتاريخ: (26)
هو علي صالح العابدية، ووالده أحد المجاهدين الذين شاركوا السّيِّد محَمّد المهدي السُّنوُسي جهاد المستعمر الفرنسي في أفريقيا، وقضى معه بعضاً من الوقت في تشاد.. وهو أحد شهداء معركة (الكفرة) الشهيرة التي دارت أحداثها في يناير/ كانون الثاني 1931م، ومن بين الذين استشهدوا في هذه المعركة إلى جانب الشّيخ صالح العابدية، الشّيخ سليمان بومطاري. ورث السّيِّد/ علي العابدية عن أبيه الشجاعة وقول الحق والوقوف إلى جانبه، كمَا أنّه مدين له باهتمامه المبكر بالشأن العام ووعيه السّياسي المبكر.
ولد السّيّد على العابدية في واحة (الكفرة) سنة 1890م، عاش وتربى في محاضن الزوايا السُّنوُسيّة ولعب أدوراً مختلفة مع السّيّد/ أحمد الشّريف ثمّ السيّد/ إدرْيس المهدي. وللسّيِّد على العابدية أربعة أخوة، وهم: يونس، عبدالحميد، بشير، ومحَمّد. منحته السّلطات العثمانيّة لقب الباشاويّة وأصبح يُعرف منذ أن منحه السلطان عبدالحميد رتبة الباشاوية، بلقب (علي باشا). تزوج السّيّد على العابدية ثلاث مرَّات، الأولى برعصية أيّ من قبيلة (البراعصة) من مدينة البيضاء، والثانيّة أردنية لم يدم زواجه منها طويلاً حيث تزوج للمرّة الثالثة في عام 1947م من سيدة أردنية من أصل سوري، وهي السّيِّدة الفاضلة "فائزة البيطار" من عائلة تعد من أعرق وأشهر العائلات في بلاد الشام. تزوجت أختان من أخوات السّيِّدة فائزة البيطار من ليبيان، الأولى من السّيِّد السُّنوُسي شمسة، والثانية من السّيِّد محَمّد بن يونس.
أنجب السّيّد على العابدية من زيجاته، الأولاد الأتي أسماؤهم: فتحي (ولد عام 1921م بالكفرة جنوب ليبَيا وتوفي ببنغازي يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثّاني 2008م)، سهيل (توفي في 2005م)، إدريس (ضباط بالجيش توفي عام 1957م)، نبيل (ولد بالمفرق في الأردن عام 1948م، وتوفي عام 1982م)، محَمّد الشهير بـ(حمودة)، قيس (لاعب نادي الهلال والمنتخب الوطنيّ لكرة السلة في الستينيات والسبعينيات)، خالد.. وأربع بنات. وأصهاره، كل من السّادة: أحمد امبارك السوسي، فخري العنيزي، علي جبريل الكبتي.
شغل أبنه فتحي (27) منصب وكيل الدّيوان الملكي في بنغازي ثمّ سكرتيراً خاصّاً للملك إدرْيس السُّنوُسي لعدة سنوات ثمّ وزيراً مفوضاً ثمّ سفيراً لليبَيا لدى الولايات المتحدة الأمريكيّة، وظلّ في هذا المنصب إلى ساعة إنقلاب معمّر القذّافي في سبتمبر/ أيلول 1969م. وكان أبن أخو على باشا، السّيَّد عمران يونس العابدية أحد أعضاء مجلس النّوّاب في عهد الملك الرّاحل إدرْيس السُّنوُسي.
رافق علي باشا العابدية السّيِّد إدرْيس السُّنوُسي – وقبل استلامه للإمارة من ابن عمّه السّيِّد أحمد الشّريف – في رحلته لأداء فريضة الحج التي انطلقت من الكفرة يوم الرابع من شوال الموافق أغسطس/ أب 1913م، وكان بصحبته إلى جانب العابدية كل من: السّيّد/ محَمّد التواتي والحاج فرج، وأحد مشايخ الزَّوايا السُّنوُسيّة، وثلاثة من الخدم من بينهم شخصاً سودانياً.
كان على باشا العابدية من بين كبّار المجاهدين الذين أشرفوا على معسكرات المجاهدين حينما وُزِعَ مجاهدو برقة على سبعة معسكرات فيما عُرِف بـ(الأدوار). ففي عام 1917م {.. كانت معسكرات (أدوار) المجاهدين الرئيسة في برقة سبعة معسكرات، وفيما كان على باشا العابدية يشرف على معسكري (إجدابيا والشليميظة) والسّيّد صفي الدّين السُّنوُسي يشرف على معسكرات (مراوة وخَوَلان وعكرمـة)، وكان السّيّد عمر المختار يتولى الإشراف على معسكري (الأبيـار وتاكنـس). وكثيراً ما قام الأمير إدرْيس السُّنوُسي، فضلاً عن ذلك، بتكليف عمر المختار بمهام اتصالية مختلفة..}م40.
رافق على باشا العابدية شيخ الشهداء عمر المختار في رحلات تفقدية كثيرة داخل الوطن للإطمئنان على أحوال المجاهدين وسير المواجهات مع المستعمر الإيطالي البغيض، كمَا كان بصحبته حينما قابل المختار – الأمير إدرْيس السُّنوُسي بمصر. وفيما كانت القيادة الإيطاليّة الفاشستية {.. في برقة تعدّ العدَّة في السّادس من مارس/ آذار 1923م لإعلان الحرب من جديد على المجاهدين، والاستيلاء على "الأدوار المختلطة" والدّور السُّنوُسي في " خَوَلان"، كان عمر المختار قد وصل إلى مصر بصحبة على باشا العابدية لمقابلة الأمير إدرْيس وإطلاعه على سير الأوضاع في البلاد، والاتفاق معه على تفاصيل وترتيبات الخطّة الجديدة لمواجهة العدوان الفاشستي الصائل، كمَا اتفق معه على أن يكون الحاج التواتي البرعصي هو حلقة الاتصال بينهما، ثمَّ قفل راجعاً إلى برقة يحمل معه كتاباً من الأمير إدرْيس إلى السّيّد الرَّضا المهدي السُّنوُسي (الوكيل العام للأمير) بأن تظل القيادة العليا للمجاهدين في يد السّيِّد عمر المختار..}م41.
وفي عام 1916، شارك على باشا العابدية في مفاوضات الزّويتينة التي شارك فيها البريطانيون إلى جانب المفاوض اللّـيبيّ والطرف الإيطالي. وبخصوص مشاركة العابدية في مفاوضات الزّويتينة، جاء في كتاب: (الحركة السُّنوُسيّة) للدّكتور/ علي محَمّد الصلابي: ".. كان الوفد الانجليزي قد جاء بطريق البحر من القاهرة إلى بنغازي للاجتماع بالوفد الإيطالي الذي كان مكوناً من الكولونيل بيلا، والكومانداتور بياجنتيني، ومترجمهم، ولم يطل الوفد الإقامة في بنغازي، بل، سافر إلى الزّويتينة بيخت خاص، فوافاهم إليها السّيِّد إدرْيس من إجدابيا، وكان من بين من معه: (علي باشا العابدية).
بدأت المفاوضات بين الأطراف الثلاثة خلال شهري أغسطس/ أب، وسبتمبر/ أيلول سنة 1916م. وكان الوفاق والتفاهم ظاهراً فيما بين الجانبين الانجليزي والسُّنوُسي (اللّـيبيّ) أمّا العلاقات الايطاليّة فقد كانت مغايرة لذلك تماماً..".
وعقب اتفاقيّة (عكرمة)، تشكلت في برقة أوّل حكومة وطنيّة (حكم ذاتي) أو ما عُرِف باسم (حكومة إجدابيا) عام 1917م. تشكلت الحكومة في مركز الإمارة بإجدابيا..".. وضمت مجلساً خاصّاً بعضويّة كبّار الأخوان والعلماء، ومجلسا للأعيان بعضوية شيوخ وأعيان القبائل، ومن أعضاء الحكومة الذين تولوا بها مناصب مختلفة: عمر المختار (نائباً للمنطقة الغربيّة)، علي باشا صالح العابدية (متصرفاً لإجدابيا)، محمود بوهدمة (عميداً للبلدية)، حسن الغرياني (رئيساً لقسم المحاسبة)، محَمّد علي بن شفيع (رئيساً لقسم الجمارك)، الشّارف باشا الغرياني (قائداً للجيش)، ساسي بن شتوان (عضواً)، السُّنوُسي قادربوه (عضواً).. وغيرهم.. (31)".
رافق علي باشا صالح العابدية، الأمير إدريس السُّنوُسي بصفته عضواً بحكومة إجدابيا في رحلته إلى العاصمة الإيطاليّة (روما)، والتي اصطحب فيها وفداً مشكلاً من بعض أعضاء الحكومة، وكان ذلك في نوفمبر/ تشرين الثّاني 1920م.
كان علي باشا العابدية على علاقة طيبة متينة بالسّيِّد إدرْيس ومحباً للسُّنوُسيين، وجاء بخصوص هذه العلاقة على لسان الرحالة أحمد محَمّد حسنين باشا في كتابه (صحراء ليبَيا) ..".. وعلي العابدية هذا جندي ماهر وكان سنداً قوياً للسّيِّد إدرْيس وموضع ثقة عنده..".
هاجر علي باشا العابدية إلى مصر ثمّ إلى منطقة (المفرق) بشرق الأردن، ونشط في القضية الوطنيّة مع رفيقه المرحوم عمر فائق شنيب.
هاجر إلى مصر بعد استشهـاد الشّيخ عمر المختار (16 سبتمبر/ أيلول 1931م)، ولكن البريطانيين لم يرضوا بإقامته في مصر فتمّت ملاحقته أولاً ثمّ خُيِّر بين الاعتقال أو الخروج من أرض المعز فهاجر إلى الأردن فاستقبله الملك عبدالله استقبالاً حافلاً وأكرمه غاية الكرم. وصل السّيِّد علي باشا العابدية إلى الأردن مع ألـف (1000) مجاهد من المجاهدين اللّـيبيّين، وعند مقابلته للملك عبدالله، سأله الملك عن طلباته، فطلب منه أن يمنحه أرضاً في المفرق يقيم فيها هو ومن يقبل من رفاقه الإقامة في تلك المنطقة الخالية من السكّان تقريباً آنئذ.اختار السّيِّد علي باشا العابدية الإقامة في هذه المنطقة لأن مناخها كان قريباً من مناخ واحة (الكفرة) التي ولد فيها، ولأن بها طريق إلى بغداد من ناحية وإلى سوريا من ناحية أخرى بالإضافة إلى طريق يربطها بعمان العاصمة الأردنية. منح الملك عبدالله أرضاً كبيرةً تساوى تقريباً نصف مساحة القاهرة القديمة إلى السّيِّد علي باشا العابدية بقيمة رمزية.
وصل علي باشا العابدية إلى المفرق ومعه حوالي عشرين من رفاقه حيث اختار الآخرون الإقامة في عمان وضواحيها. تمكن على باشا العابدية من تعمير هذه البقعة من الأرض، فأنشأ بيتاً خاصّاَ ومسجداً ومدرسةً ومقراً للبلدية والتي أصبح عميدها بعد تأسيسها مباشرة.
أصبحت المفرق بعد سنوات من قدوم على باشا العابدية إليها، مدينة قدمت عائلات كثيرة إليها واختارتها مقراً لسكنها وأصبح عدد سكانها الآن يقدر بحوالي ربـع مليون نسمة.
يطلق اسم (على باشا العابدية) الآن على أكبر شوارع مدينة المفرق، وتسمّى بلديتها باسمه كذلك يطلق اسمه على المسجد الذي بناه بعد مجيئه إليها مباشرة.
كان الملك عبدالله يزور أحياناً على باشا العابدية في بيته، ويقضي مبيته عنده في أوقات كثيرة. وعلاوة على العلاقة الخاصّة التي ربطته بالملك عبدالله، كانت علاقته بالأمير حسين الذي أصبح ملكاً فيما بعد، علاقة قوية وطيدة، وقد توج الملك حسين هذه العلاقة بمنح على باشا العابدية أرفع أوسمة المملكة الأردنية الهاشمية.
منح على باشا العابدية أراضي المفرق التي منحه إيّاها الملك عبدالله، إلى آل بنى حسن بعد مغادرته المفرق وعودته إلى ليبَيا عام 1950م.
عاد على باشا العابدية إلى بلاده عام 1950م بعد أن دعاه السّيِّد إدرْيس السُّنوُسي إلى العودة نظراً لحاجة البلاد لوجوده وهي تخطوا نحو الإستقلال وتعقد العزم على بناء دولة ليبَيا الحديثة.
استجاب على باشا العابدية لدعوة السّيِّد إدرْيس وأقام في قصره في بنغازي هو وأسرته لمدة شهر بعدها انتقل إلى السكن في بيت خاص به في مدينة بنغازي.
أُنتخب السّيِّد على باشا العابدية يوم 15 أكتوبر 1954م رئيساً لمجلس الشّيوخ خلفاً للسّيّد/ عمر باشا منصور الكيخيا، واستمر في منصبه حتَّى 25 مارس/ آذار 1956م.
وضمّ مجلس الشّيوخ في فترة ترأس العابدية له - وكمَا جاء في المجَـلد الرّابع: "ليبَيا بين الماضي والحاضر" للدّكتور محَمّد يوسُـف المقـريـَف - كلاً من الشّيوخ: ".. أبـي بكر أحمَد، أحمَد رفيق المهدوي، حسين عبدالملك، خليك العريضـة، أحمد راسم كعبار، سالم المنتصـر، محَمّد بن عثمان، صـالح خربيش، الطاهـر الأزهـري، عبد الكافي السمين، عبدالحميد العبّار، أبـي القاسم بـادي، علي القره مانللي، علي القطرون، مبروك عـريبي، محَمّد شليد، محَمّد المنصـوري، حميدة المحجـوب، خليـل نـاصوف، علي بن محَمّد الشّريف، عـوض لنقـي..".
وبعد خروج على باشا العابدية من مجلس الشّيوخ، عينه الملك إدرْيس السُّنوُسي سفيراً لليبيا لدى المملكة العربيّة السّعودية، واستمر في منصبه بضعة سنوات. منحه عبدالله ملك الأردن عدداً من الأوسمة والأنـواط كذلك فعل الملك حسين من بعده. ومنحه الملك إدرْيس السُّنوُسي ثلاث أوسمة رفيعة تكريماً وإعزازاً لدوره الوطنيّ العظيم. ويذكر أيضاً، أن المملكة الأردنية أقامت لابنته السّيِّدة منى العابدية حفل عشاء كبير حضرته سيدات المجتمع وكبار الشخصيّات الأردنية تكريماً لوالدها وذلك حينما زارت المملكة الأردنية الهاشمية عام 2007م.
توفي في فبراير/ شباط 1966م في مستشفى (الملاحة) بطرابلس، وكان الملك إدرْيس السُّنوُسي قد زاره في المستشفى أثناء فترة تلقيه للعلاج. شارك في تشييع جثمان علي باشا العابدية وفداً ممثلاً للحكومة اللّـيبيّة آنذاك، ودفن في مدينة (إجدابيا) أهمّ مراكز تجمع قبيلة (الزويه) التي ينتمي إليه المغفور له بعون الله تعالى.
ما أعظم التاريخ الذي تركه علي باشا العابدية، وما أعطر ذاكره التي نستمد منها القوة والعزيمة.. والمدد لمواصلة العمل من أجل خير ليبَيا ورفع الظلم عن مواطنيها. ومن ترك كل هذا التاريخ لا يموت... رحم الله علي باشا العابدية.. وفي الخالدين.
ملاحظات وإشارات هامّة:
26) علي باشا العابدية.. سيرة وتاريخ: اعتمدت على التعريف الخاصّ بالسّيّد علي باشا العابدية في المقالة التي نشرتها تحت عنوان: "هَدْرَزَةُ في السّياسَةِ والتّاريخ - الملك.. العقيد.. المعارضة الليبيّة في الخارج"، والموجودة في أرشيف الكاتب في موقع (ليبَيا المستقبل). أجريت على هذا التعريف بعض التصحيحات والتعديلات وأضفت إليه معلومات كثيرة بعد إتصالات ومراسلات أجريتها مع عائلة العابدية.
27) السيّد/ فتحي العابدية: لمعرفة المزيد من التفاصيل عن سيرة السّيِّد فتحي، يرجى الرجوع إلى المقالة (النعي) المنشورة تحت عنوان: "رحيل أحد بُناة دولة ليبيا الحديثة، والدبلوماسي المخضرم (1921 – 2008م)" في موقع "ليبيا المستقبل" بتاريخ 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008م.
31) حكومة إجدابيا: أنظر إلى الأسماء التي شاركت في حكومة إجدابيا في كتاب: "برقة العربيّة أمس واليوم" للأستاذ/ الطيب الأشهب الصادر من القاهرة عام 1947م. وأنظر إلى مقالة "مجلس نوّاب برقة في العهد الإيطالي (1921م-1926)" للأستاذ/ سالم حسين الكبتي، المنشورة في موقع (منتدى ليبَيا) بتاريخ 16 مارس/ آذار 2008م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق